قصة الطيران على جناح ذبابة

قصة الطيران على جناح ذبابة



قصة الطيران على جناح ذبابة هي قصة طريفة  للكاتب العراقي كاظم اللامي , يحكي فيها معاناته مع ذبابة في ليلة من الليالي , باسلوب رائع ومشوق ’ والقة تحتوى على الكثير من الخفايا بين طياتها والاثارة التشويق فهي ليست مجرد قصة

نترككم مع القصة

أعلن المذيع ذو الصوت الأجش نهايةَ البثّ التلفزيوني لقناة الشباب الحكومية بعد سهرة الخميس المعتادة والفيلم العربي (سعد اليتيم). حينها قفزت واقفاً وبسرعة البرق أطفأت التلفزيون دون أن أنتظر عزف السلام الجمهوري وظهور شاشة النقاط الصغيرة باللونين الأبيض والأسود الدالة على انقطاع البث التلفزيوني، 

فعلتها بتوتر لم أعهده فيَّ بسبب نهاية الفيلم الحزينة والتي كانت واضحة التأثير حتى على المذيع الذي بدا منكسرا مكلوما.

 عالَجْتُ الموقف بعدها وكبحت فرامل توتري بحديث كان طرفاه نفسي وأناتي "هي سهرة ليست أكثر من ذلك وانتهت فصولها عند السلام الجمهوري.. وهذا أمر طبيعي عشناه على مدى سنين".

لم يكتب لي الراحة ليلتها وهذا ما درج عليه حظي العاثر، فقد قضيتُ بعدها سهرة أخرى ومن نوع خاص، لسان حالي يكشف عن طبيعتها .. إِذا ناماتِ الأجفانُ بتَّ مكابداً ... دجى الليلِ إِشفاقاً بطرفٍ مُسَهَّدِ .. سهرة قضيتها مع ذبابة مستهترة؟!! نعم ذبابة مستهترة تخلت عن أخلاقها في مكب نفايات قبل أن تتسلل خلسة إلى بيتي أو بالأحرى إلى غرفتي المنفردة بعيدا عن الناس عند اطراف 
المدينة.

    مارَسَت الذبابة حريتها بالطيران راقصة بعدوانية تثير التساؤلات وتستفز القلب كي يغلي ويغلي، وهي تحوم كنسرٍ نافقٍ فوقَ أنفي بتكرار عجيب، مع طنين مزعج تعمدَتْ به استنزاف روحي. حيال ذلك أحسست بذلة خانقة وأنا أتلقى صفعات جناحيها البغيضين مما دعاني لمهاجمتها بشراسة لم أعهدها في نفسي. لكنّها  كانت تتملص من بين يدي بأريحية الخبثاء ولثلاث مرات.. حاولتُ في كل عملية هجوم مباغتة أن أسحقها بكفي الخشنتين تحدوني رغبة محمومة في الإجرام منهياً بذلك فصلا مهيناً من العذاب.. لكنْ ما الجدوى من رغبة القتل المحمومة هذه دون أدوات حقيقية تتواجد في جعبتي تدعم رغبتي، فليس لي من ذلك الجهد سوى إثارة جلبة بتصفيق حاد يوحي بالجنون.. إحباط كبير عشته وأنا أتابع طيرانها وطنينها المقزز ليعلن بعدها هذا الليل البهيم سخافة محاولاتي وهي تتحطم واحدة تلو الأخرى على صخرة الفشل.

    في لجّة خوضي في مستنقعات الحيرة وشلل التفكير باستجداء علاجٍ للموقف، تذكرتُ ساعتها كلام أمي وهي تحلل مشاكسات سابقة للذباب وطريقتها المثالية في مكافحته بطرق سلمية مقدمة ذلك بوصايا تلخصت بأن الذباب يفقد القدرة على الحياة عند انعدام الضوء.. ترحمت على أمي ونهضت بهمة الثائرين وعمدت إلى إطفاء مصباح الغرفة استجابة لهذه الوصايا فاصطبغت الغرفة بظلام دامس "تخرج يدك لم تكد تراها" لكنها لم تعدو أن تكون محاولة ساذجة مصيرها الفشل كسابقاتها. ترحمت على 
أمي مرة أخرى، فالطنين مازال يشج رأسي بحصاه الموجعة محتفلا بعزف منفرد على آلة تشبه أصواتها صوت صرير عجلات عربات الحمل الخشبية المتهالكة في شوارعنا المتآكلة.

     ما الذي تريده مني هذه الذبابة اللعينة؟ لم كل هذا الإصرار على هرس روحي بعجلات كراهيتها؟.. ما هو الذنب الذي ارتكبته بحقها لتنتقم بهذه الطريقة المذلة؟.. ربما فَعَلَت ذلك انتقاما لسحقي ذويها بأعداد هائلة في طفولتي؟ عندما كنت أكبس بيديّ الصغيرتين على جموعها المحتشدة قرب القمامة وأطعمها لكتاكيت دجاجتنا الهزيلة فتأكلها باستمتاع ملحوظ.

     تواصل ذبابة الشؤم طيرانها المنخفض حتى أكاد أسمع سخريتها بطنين يستحيل إلى ضحك مستفز يعلو ويخفت بهارمونية تركلني بقسوة كما كانت تفعل أمي في أيام الطفولة عندما تقودني للحمام ركلاً في كل ظهيرة جمعة لنفض ما علاني من الوسخ 
والأدران طيلة أسبوع.

     ركعتُ أمامها واضعاً رأسي بين جناحيها وأنا أستحلفها بكل تلال القمامة المستطيلة في المدينة الآخذة بالتضخم ...
-       كفي عن جنونك سيدتي.. كفي عن عقابك غير المبرر هذا.. ففي صباح الغدٍ لابد أن أتواجد في عملي.. وإن تأخرت أو لم أحضر سيفصلونني من العمل. أفهمتني؟.
     تردُ عليّ بصفاقة أبناء الشوارع..
-       لكنّك .. ستربح اصطياد النجوم بالتأكيد!!.
-       أحلم باصطيادك أيتها العاهرة.

     لوثتُ الفضاء ببصاق حانق ثأرا لهزيمتي النكراء في معركة غير متكافئة أمام كائن وضيع لا حجم له.. ومداراة لخجلي هربتُ عندَ تخوم سريري وتلفعت ببطانية ثخينة غطت كل جسدي ولم يطل منها سوى عينان حذرتان تتطلع في العدم. تلوت آية الكرسي عدة مرات بلسان مرتجف وقلب يعوي رغبة في الغرق بنوم يُنسيني دكتاتورية هذه الذبابة اللعينة. لكنّها أبَت إلا أن تُوغل في تعذيبي، فهي فنانة محترفة بطرق الطنين وكيفية إيصال مداه حتى مستنقعات آذان روحي مما زادني أرقا وقلقا..

-       اللعنة على القمّامين القذرين الذين فسحوا لك المجال لتعتلي أرواحنا بطنينك المُسْتَفِز هذا.

     سقط في يدي. لم أتوصل لحل يرضي كرامتي. نفضت البطانية عن جسدي بلا مقدمات تذكر وطوحت بها بعيدا، ثم قفزت باتجاه باب الغرفة ففتحته بعنف على مصراعيه في محاولة يائسة لطرد الذبابة خارجا وإعادتها إلى مسكنها الأم عند تلال القمامة 
الشاهقة.. استجاب الباب لرغبتي.. تناولتُ أحد قمصاني واستخدمته بحركات تهويمية في الهواء كأداة لطردها. رحت أدور في الغرفة كالمجنون، أهش بقميصي يمينا ويسارا، وكأنني في حلقة دراويش، حتى علا صراخي فاشتد جنوني وانا أردد لازمة 
اعتادها الدراويش "الله حي الله .. الله حي الله" أحسست بجدران الغرفة وما توسطها من أثاث يدور معي راقصا رقصة الدراويش حتى أعياني الهش والنش فسقطت فوق سريري بلا حراك.

     لحظات صمت حذرة سيطرتْ على فضاء الغرفة دعتني للمكوث ساكنا ودَعِمْتُ هذا الصمت بقطع الأنفاس خوفا من عودة الطنين الذي لم يعد حاضرا كأنه لم يكن. ولما تيقنت بأن الذبابة قد استسلمت لهشي ونشي وأخذت طريقها خارج غرفتي سربا مغادرة إلى غير رجعة .. فرحت، رقصت، حتى إنني غنيت جميع أغاني السبعينات لفاضل عواد وقحطن العطار وحسين نعمة وياس خضر.. حمدت الله واستبشرتُ خيرا. حاولت بعدها الاحتيال على سهادي بنومة ولو لدقائق لكن دون جدوى. منظري يوحي بالغباء وربما الجنون وانا أُمسك برأسي مطأطأ مفكرا بمصيري فأنا كائن هلامي يستحق العطف.. رضخت أخيرا لواقعي ورحت أحسب الدقائق حتى موعد خروجي للعمل فجميعنا كائنات لا تنتظر شيئا سوى أن يمر الوقت وأنا فيهم الميت الأوحد الذي يقول بتواتر وبتكرار:
-       لا تختلف أحوالنا نحن الموتى إن أشرقت الشمس أو غربت.

    لنخلص أخيرا بفلسفة تقول: أن الحياة خلقت هكذا ويجب أن يعيشها أحدنا كزائر خجول لبيت أحدهم وأن يقتنع بها مثلما يقتنع الفقراء بطبخ طعامهم سلقا إن شح الزيت .. فلا فرح هناك ليطل برأسه مبشرا بنهاية عالم داعر نحن أبطاله .. ومن هنا يتحفز الأخرون لمنحنا لقب قديس بعد طول اختبار، ربما سخرية وليس استحقاق، ولكن هل شرط أن يقاسي المرء متجرعا مرارة الحياة ليستحق لقب قديس؟ لذلك كنت أواجه هذه الهلوسات بتشكيل فصولا من المقارنة بين ما أنا فيه، أنا البائس الهامشي حيث كل الصخب والألم هنا، وبين ما هم فيه أولئك المنظرين حيث كل السكون والدِّعَة هناك.

     تخيلتني أغرق وسط بحر من الوسادات التي اشمئز رأسي منها. كانت جميعها خشنة رغم حشوها بريش طير الخضيري إلا أنها أصبحت لا تطاق ،، رميتها بعيدا فتناثر الريش في الفضاء ليبدو المنظر وكأنه ساحة عراك للطيور بمختلف ألوانها وأصنافها 
حتى انفض المشهد عن آخر ريشة وهي تتزحلق هابطة برشاقة كبرشوت طيار فشل في أول تجربة طيران .. تابعتها وهي تحاول الهبوط عند عينَيّ وما إن وصلت هناك حتى اختفت واختفى المشهد برمته.

    وضعت ابتسامة مزيفة على وجهي وأنا أتذكر مقولة أبي الخالدة " كلما جلدتك الأيام بعويلها غط وجهكَ بابتسامةٍ مزيفة للاحتيال على الواقع المرير" ففعلت حتى سُجِّلت لدى العالم كأكبر محتال عرفته الأمم!!.

     وسط هذا الانكسار المرير مررت يدي لا إراديا إلى أحد أدراج مسمى مكتبتي، علقت بأصابعي حفنة رسائل غرامية قديمة فوجئت بها واستقبلتها بتضاد للمشاعر ما بين فرح وحزن دعتني ذكرياتها لأن أنود برأسي كالمخمور لأنها رسائل تحمل ذكرى 
عطرة على قلبي رسائل ملاك سرقه المجتمع عنوة مني ،، فقد أرسلتها لي حبيبتي قبل سنين مضت .. وكَمَنْ يلعب لعبة الحظ "الروليت" استخرجت واحدة منها فاذا بها الرسالة الأخيرة لها. شرعت في قراءتها وكأنها تمر عليّ لأول مرة ....
-       حبيبي .. هذه آخر رسالة أكتبها لكْ .. فقد قررت حرق نفسي ووضع خاتمة لآلامي التي لم تراعها أنت بحل أو مبادرة منك لتفويت الفرصة على ابن عمي الرجل الأمي بالزواج مني بالإكراه..هذا الزواج الذي سيباركه الأهل والأصدقاء بالأهازيج 
والزغاريد والرقصات وكذلك الطعنات لقلبي .. كان أمامك منفذ سهل الولوج للخلاص وبكلمة واحدة "جئتكم راغبا بخطبة ابنتكم إيمان" .. اعلم أن هذا الجسد الذي سيتفحم بعد آخر كلمة في هذه الرسالة لا يمكن لكائن من كان أن يملكه سواك.. 
اخترت ميتة عظيمة لي كي تذكرك بكلماتي التي كنت تعشقها "حرائقُ مُدني .. بعضُ أنفاسك".

    تخيلت النار المقدسة التي شبّت في ثيابها وهي تلتهم أنوثتها التي كنت أقارنها بأنوثة الممثلة سعاد حسني .. وكان هذا يسعدها بل يجعلها تنط من الفرح كأرنب في جنة واسعة .. هذه النار أكلت أطراف روحي وما زالت تواصل صعودها حتى 
بت انتظر وبشوق يوم تأتي على أخر ما تبقى لدي من وجود لأستريح غافيا في العدم .. كنت جبانا وبمرتبة الخزي .. كنت مترددا .. كنتُ قاتلا مع سبق الإصرار والتعمد!!.

    ما استخرجته من رسائل حبيبتي دعاني لاستخراج دفتر قصائدي التي كَتَبْتُها لها خصيصا علني أجد حسنة وحيدة أرمم بها نذالتي وتقصيري اتجاهها.. فتحت الدفتر عند صفحتين متلاصقتين كدت أن أعبث بحروف القصيدة لكنني فتحتها على أي حال 
والتي كان مطلعها ...
حبيبتي ...
أخيرا ...
بعد بحث طويل
وجدتُنيكلمةً على أعتاب قرآنكِذي الآيةِ الواحدةِ

   أمعنت النظر ملياً في صَفْحَتَي الدفتر، ثمة ما يثير التساؤلات .. صفحة علق بها دم متيبس وبالصفحة الأخرى علِق شيء هالَني منظره .. يا ربااااه .. إنها ذبابة متيبسة التصقت بقوة على ظهر الصفحة .. كيف تسربت بين الصفحتين؟ منْ كبس 
الدفتر عليها بهذا الشكل؟ .. تذكرت آخر مرة قرأت فيها الدفتر كانت قبل يومين من الآن ربما أتت هذه الذبابة للاستمتاع بقراءة كلماتي وهي تزين دفتي هذا الدفتر الذي أطبق عليها بهذه القسوة دون علم مني .. أي جريمة مهولة ارتكبتها أيها الهلامي بقتلك هذه الذبابة الرومانسية العاشقة المحبة؟!!.

    سلسلة الجرائم تتعدد في هذه الليلة وتتوسع أحداثها .. وما عساها تريد تلك الذبابة التي أقلقت منامي قبل قليل والتي طردتها بقميصي خارج الغرفة؟ .. يارباااااه ..  ربما أتت لتطمئن على الذبابة التي قتلتُها داخل الدفتر؟!!  يا ترى مَنْ كان منهما الذكر ومن كانت الأنثى فيهما؟ .. وما سر هذا التواجد لهما وسط غرفتي وبهذه الأحداث الدراماتيكية؟ .. جميع ما حدث ليس حلما إنها الحقيقة، 
الذباب يخبر الإنسان بحجم ما خسره من إنسانية على أعتاب أنانيته .. "أيها الهلامي أنت مدان تستحق التلاشي" .. هذا ما أراده الذباب إبلاغي إياه .. أرضخ للإدانة واعترف بها .. أهش بقميصي عليَّ، فأطردني خارج غرفتي، استنشق نسيم 
الشوارع المتربة بالنفايات، تبتلعني متاهات الأزقة الموحشة إلا من هسيس نيران لاهبة، تطاردني لعنات وصيحات جيش من ذباب يهش عليّ نافخا بأجنحته حتى أكلت النار ما تبقى من وجودي.
-       أيها الهلامي .. أنت مدان .. تستحق التلاشي.
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    ان كنت كاتب للقصص وتريد نشرها في موقعنا راسلنا بقصتك عبرة صفحة اتصل بنا ونحن سننشرها في الموقع باسمك



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -