قصة التَّغْريبة الأردنيِّة

التَّغْريبة الأردنيِّة

مرحبا بكم متابعينا الاعزاء , نضع بين ايديكم قصة التَّغْريبة الأردنيِّة والتي نرجو ان تنال اعجابكم.

بقلم: طارق قديـس
بتصرف

ضَغَطَ سُرورُ على زِرِّ التَّشْغيل حتى أضاءت شّاشةُ التِّلْفاز، وظهرَ المُذيعُ في نَشْرَةِ الأخبارِ وهو يَزُفُّ النَبَأَ السّارَّ للمواطنين، أنَّ مشروعُ الباصِ السَّريع قد شارفَ على الانتهاء.قَطَعَ طرقٌ مُتواصِلٌ حبلَ أفكارِ سُرور ومتابعتَهُ للنَّشرة، فقامَ وفتح الباب. تبينَّ أنَّ جارَهُمْ القديم في مدينة إربد أبو عِناد قد أرسلَ له دَعوةً لحضورِ حفلِ زفاف ابنه الأسبوع المُقبل في جبل الحُسين بمدينة عَمّان. تَسَلَّمَ سُرور  الدَّعْوةَ بشغف. نَظَر إلى الدَّعْوةِ بنظراتٍ مُطْمئِنَّة وهو يَتَفَحَّصُ عددَ المَدْعُوّين، أخْبَرَ زوجَتَهُ لَمْعَة بالأمرِ وضَرورَةِ الحُضورِ. تَنَهَّدَتْ بخُشونةٍ والامتعاضُ بادٍ في مَلامِحِها. تَلَتْ عليهِ ما سَمِعَتْ من أنَّ هناكَ أزْمَةَ سَيْرٍ خانِقَةً تُطَوِّقُ شَوارِعَها الرَّئيسيَّة. أصابَ التَّرَدُّدُ نفسَهَ، إلا أنَّهُ عادَ للحِوارِ مَعَها بعدَ أن أيقَنَ ضَرورَةَ الذَّهاب، فَذَكَّرَها بالهَدِيِّةِ الثَّمينةِ التي قَدَّمَها لابنِهِما وَضّاحٍ يومَ زَفافِهِ قبل خمسِ سَنَواتٍ، وهو ما يَضَعُهُما أمامَ التزامٍ أدَبيٍّ لِرَدِّ الهَديَّةِ بمثلِها أو أَثْمَنِ منها، هذا بالإضافَةِ إلى أنَّ الحفلَ سيقامُ في فُنْدُقٍ مرموقٍ مما سيَمْنَحُهُ فُرْصَةً لرؤيةِ مدينةِ عَمّان من جديد، خاصَّةً وأنَّ آخرَ زيارةٍ لها تَعودُ لأرْبَعَةِ سنواتٍ خَلَتْ. تَمَكَّنَ في النِّهايةِ من إقناعِها، والتَّجْهيزِ  للارتحالِ نَحْوَ الشَّمال.

بعدَ أسبوعٍ اتَّخذ سُرورٌ وزوجَتَهُ مَكانَهُما في السَّيارة وقد وَدَّعا ابنتَهُما ورَضيعَها. طَلَبا منها الاعْتِناءَ بالمنزلِ ريثما يَعودانِ، فأخوها يَعْمَلُ في بلادِ الغُرْبَة، وما من أحَدٍ آخر يمكنُهُ تَدَبُّرُ أمرِ الحَديقةِ، ورِعايَةُ الدَّجاجِ والحَمامِ المُرَبّى في الرُّكْنِ الخَلْفِيِّ للمنزل. وما هي إلا دقائِقُ حتى كانت السَّيارةُ الأوبِل قَديمةُ الطِّراز ذات الطِّلاء الباهت والأبوابِ الصَّدِأة تُمَشِّطُ بعجلاتِها الشارعَ التُّرابي المُؤدّي للطريقِ العام باتِّجاهِ العاصَمِة.


بدا الطَّريقُ العامُّ سالِكًا للغايَة. وَجَدَ في ذلك فُرْصَةً ذَهبيَّةً لنَبْشِ الذِّكرياتِ الجميلةِ ولمُداعَبةِ شَريكةِ عُمْرِهِ. استدعى في لحظة مشهدَ لقائِهِ بها أولَّ مرَّةٍ،  وجَعَلَهُ يَسْرَحُ في شَغَفٍ مأمولٍ هَرِمَ مع الكِبَرِ وما زالَتْ فيه ريحٌ من نَبْضِ حياة، لم يُفِقْ منهُ إلا على إثرِ صَفْعَةٍ مؤلمةٍ على يدِهِ من زوجته التي ثارَتْ فيه وقد جَحَظَتْ عيناها غَضَبًا واستياءً، فتأكَّد له حينَها أنَّ مُحاوَلتَه في استدعاءِ أُنوثَتِها من مَكامِنِها باءَتْ بالفَشَل، وأنَّ الأفضلَ له أن يجعلَ الإسفِلْتَ والجُزُرَ الوَسطيَّة هدفًا لعينيه بدلًا من السَّبْرِ في خَيالاتٍ عَفا عليها الزَّمن.

خَشخَشَةُ الأُغنياتِ المنبعثَةِ من الراديو كانت بِدورِها رَفيقًا ثانيًا لهُ، هَوَّنَ عليهِ مَسافَةَ السَّفر، إلى أن لمحتْ عيناهُ بوادِرَ ازدحامٍ مُروريٍّ في الأفق. عندَها أطفَأ الراديو واستعاذ بالله. وما هي إلا ثوانٍ حتى دَخَلَ في وسطِ  الزِّحام. أخذ يتلَفَّتُ يمينًا ويسارًا بحثًا عن منفذ. لم يجدْ سبيلًا للنَّفاذِ من الأزمة وقد ضَرَبَت السَّيارات طوقًا من حوله فغدا أشبَهَ بعصفورٍ حَبيسٍ في قفص. استرعَتْ انتباهَهُ لافِتَةٌ كُتِبَ عليها "مُحافظة عمّان تُرحِّبُ بكم". نَفَثَ من صدرِهِ نفسًا طويلًا، وقد مَضتْ ساعةٌ وأكثر عليه دونَ أن يتحرَّكَ مترًا واحِدًا إلى الأمام في ظلِّ شمسٍ حارقة وصيفٍ جاف. أخرجَ رأسَهُ من النافذةِ وسأل سائق السَّيارة المجاورةِ عن سببِ الأزمة، أخبرَهُ أن مشروعَ تضييقِ الشوارعِ ، وإنشاء مَسْرَبٍ خاص للباص السَّريعِ هُما السَّبب، وما يحدثُ هو نسخةٌ تَتكرَّرُ كلَّ يوم. شكرَهُ على التوضيح وظلَّ شاخِصًا إلى البَعيد.

أحَسَّت لمعةُ أنَّ الشمسَ شارَفَتْ على المَغيب، فطلبتْ من زوجِها الاتصال بابنتِهِما لإخبارِهِما أنَّهُما سيتأخَّران، ففعل. لكنَّ المسا حلَّ ولم يتمكَّنا من التَّحَرُّكِ سوى القَليل، فأدركا أن اللَّحاق بالعُرْسِ مُحال وأنَّ الأنسبَ هو أن يعودا أدراجَهُما ويعتذرا عن عدمِ الحُضور، غيرَ أن الخُروج من جَهَنَّمَ في تلك الأوقات بدا أيسرَ من الخروجِ من شارعِ الجامعة الأردنيَّةِ في منطقة صويلح. فلم يجدا مَناصًا من الاستمرارِ في التَّقدُّمِ بحثًا عن مُنْعَطَفٍ للاستدارةِ والعودَةِ إلى البيت.

أراد الرَّجل أن يقضيَ حاجتَهُ، فلم يعرف أين يفعلها، ولا مَكانَ للخلاء في الجِوار. فَكَّر قليلًا ثم اقترح على زوجتِه أن يترجَّلا من مَكانِهما ويذهبان لتناولِ العَشاء في أحد المطاعم على جانب الطَّريق. تَرَدَّدَت قليلًا لكن سرعان ما لانتْ، خاصةً أن الأزمة لم تنفَكَّ بعد، ولم تعد تدري كم من الزَّمن مضى وهما في هذا البُقْعة. فلم يكن منهما إلا أن أشبعا جوعَهُما وقضيا حاجَتَهُما، وعادا إلى السَّيارة دون أن تظهرَ بَوادِرُ على انفكاكِ الازدحام.انتهى شحنُ الهاتِفِ الذَّكي، وما عادَ بإمكانهما الاتصال بأحد، وأصبح الاستسلامُ للقدرِ هو الحلُّ الوحيد، وهو ما يعني النوَّم في العَراء، والاكتفاءَ بالالتحافِ بنورِ القمرِ  الآتي من سقفِ السَّماء.

لم يَعْدُ للوَقْتِ معنى، ولم يعُدْ للزَّمن بوصلَةٌ مُعينة، فكل الهَّمِ أن يعودا من حيثُ أتيا، وأن يجدا مَنْفَذًا للخروجِ من عُنِق الزُّجاجة، ولكنَّهُما ما زالا مُكَبَّلينِ في حِصارٍ مُطْبِقٍ عندَ دُوّار المدينةِ الرِّياضيَّة. والأزمةُ لا بارقَ يُشيرُ إلى انتهائِها. صُراخُ أحدهمِ نَبَّهَهُم إلى أنَّ اعتصامًا في الدُّوار الرابع عَمَّق المأساة، حيثُ استدعت 
الضَّرورة إغلاقَ عَدَدٍ من الطُّرقات، وإحداث حالةٍ من الشَّلل في العاصمة كُلِّها. وهو ما جَعَلهُما يذويانِ في مقعَدِها وقد خَذَلَهُما الأمل مرَّةً أخرى.

مع مُرورِ الوقت، بدأ سُرور يشعرُ بتصَلُّبٍ يَدُبُ في قدميه، وهُيِّئَ له أن لِحْيَتَهُ ازدادتْ بياضًا، وأن مَلامِحَ زوجتِه أصابَها التَّرَهُّلُ والكُهولة، فيما تَيّارٌ  من هَواءٍ باردٍ عبر النافذة شرعَ يلفَحُهُ بشدَّة، أيقَنَ معها أنَّ فصلَ الشِّتاءِ ألقى بظلالِهِ على المنطقة قبلَ الأوان.

فجأةً انفَجَرَ  بصُّراخٍ مَخْلوطٍ بالسَّعادَةِ والعُنفوان، صُراخٍ أيقَظَ زوجتَهُ من قيلولَةٍ حَمَلَتْها إلى بيتِها، حيثُ صوبَّةُ الكازِ، وإبريقُ الشاي على شُعْلَةِ الفُرْن، والغطاءُ السَّميكُ المفْرودُ على السَّرير، صُراخٍ تَرَدَّدَتْ فيه عبارة "قد وَصَلْنا دُوّار الداخِلِيَّة!".عندَها أدْرَكَتْ أنَّهُ وجدَ مُنْعَطَفًا سيُمَكِّنُهُ من الاستدارَةِ والعودةِ إلى حيثُ يَسْكُنان.

طَريقُ العوْدَةِ لم يَكُنْ أقلَّ ازدِحامًا من طريق الذَهاب، لكنَّ الأملَ بالرُّجوعِ إلى الحُضْن الدافئ جَعَلُه يُغالِبُ الألم الذي دَبَّ في ظهْرِهِ بشكلٍ مُباغِتْ وهو يرى صورةَ منزلِهِ ترقُصُ في عينيه وقد غدتْ عودةُ الابن الضّالِ لأرضِ الوَطَن على مَرْمى عَصا، فيما المباني من حوله تتطاوَلُ في البُنْيان، والجَرّاراتُ تَشُقُّ طَريقَها في وَسَطِ الطَّريق.

بعدَ عَناءٍ وتَعَب وصلا إلى المنزل. فتح سُرور الباب، حاولَ أن يَخرجُ بسرعة ليعانق الباب وقُضبان الحديدِ على المدخل، إلا أنَّهُ سقطَ أرضًا من تَحَجُّر ساقيه، ورأى أن يُقَبِّلَ التُّرابَ شُكْرًا وحمدًا.

خَرجت ابنَتُه على صوتِ السُّقوط. رأت أمَّها تُسنِدُ أباها الجاثِمَ في ساحَةِ البيت. هَبَّتْ للمُساعدةِ وتلاها شابٌّ فارِعُ الطّول. لم يعرفاها في البداية وقد غَزا شعرَها البياضُ، وكَستْ جبهَتَها خطوطُ التَّجاعيد، ولم يعرفا في حينها أن ذلك الشابٌّ المربوعُ ما هو إلا الطِّفلُ الرَّضيع الذي فارقاهُ منذ أيامٍ وفي الحقيقة كانت 19عامًا!

لم يُصَدِّقا أن ذلك الشاِرع الواصلَ ما بين نقطتينِ قد أكل منهما كُلَّ هذه السنين، وأنهما قضيا تسعةَ عشرَ عامًا في الاغتراب داخل الوطن.طلبَ منهَ الأبُّ أن تفتحَ التِّلْفازَ ، فقد اشتاقَ لسماعِ نشرةِ الأخبار. فلم تَكَدْ تضغطُ على الزِّر حتى أضاءت الشّاشةُ وظهرَ المُذيعُ في النَّشرة وهو يَزُفَ النَبَأَ السّارَّ للمواطنين، أنَّ مشروعُ الباصِ السَّريع قد شارفَ على الانتهاء.

هنا نظرَ سُرورُ إلى زوجته وأخذا بالضَّحكِ دون تَوَقُّف، وكأنَّها لأول 
مرَّةٍ يعرفانِ معنى الابتسام.
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    ان كنت كاتب للقصص وتريد نشرها في موقعنا راسلنا بقصتك عبرة صفحة اتصل بنا ونحن سننشرها في الموقع باسمك



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -